في وطنٍ كاد أن يُمحى، بقيت هي القصيدة التي لا تنتهي، والشمعة التي لا تنطفئ. في العام 1700، وعلى تلّة عرمتا المتّكئة على صدر المتن، تقدّم ثلاثة رهبان بثياب التواضع وصلابة الدعوة ليقيموا قدّاسهم الأوّل في ديرٍ ما زال ينبض حياة: دير مار أشعيا، أمّ الرسالة الأنطونية وبكريّتها المباركة.

ثلاثة قرون وربع مرّت، ولم تزل الرهبانية الأنطونية المارونية تحرس بكلماتها صمت الجبال، وتخضّر بالأيقونات اليابس من الأرض. لم تكن الرهبنة يومًا حجارةً فقط، بل كانت وما زالت صلاة تمشي على قدمين، وجرسًا يقرع في الزمن الصعب ليقول للبنان: “لسنا نرحل”.

أيقونة من ندى السماء

يقول الأب الياس شماطه، أمين السر العام للرهبانية الأنطونية المارونية في حديثه إلى “نداء الوطن”: “انطلقت الرهبنة في 15 آب 1700 مع البطريرك جبرائيل الثاني البلوزاوي، حين صعد ثلاثة رهبان من دير سيدة طاميش إلى تلة مار أشعيا وأسسوا هناك بذار الحياة الرهبانية”.

كان هذا النبض الأوّل بداية لمسيرة تحمل طابع الشرق وصلابة التراث السرياني الليتورجي، مسيرة لا تتكئ على الأمجاد بل على الدموع والتعب، وعلى توبةٍ يومية مستمرة.

رهبانية من صليب وقيامة

خاضت الرهبانية على مدى تاريخها الطويل ملاحم من التهجير والمجاعات والمجازر، ولكنها لم تتزحزح. “عشنا ما عاشه الناس”، يقول الأب شماطه، “لكن الدير بقي الملجأ والمنارة، بقينا السند المعنوي والمادي، نخدم ونصلّي، نرافق ونتألّم”.

شهداء كثر سقطوا على مذابح الرهبانية. من دير مار روكز إلى جزين وعجلتون، إلى الأب ألبير شرفان وسليمان أبي خليل، الذين لا يزال مصيرهم مجهولًا منذ أحداث 13 تشرين… أسماء ليست مجرد ذكريات بل صدى لمذبحٍ لا يتوقّف عن تقديم القربان.

جسور نحو الآخر… بالحب والرسالة

تميّزت الرهبانية الأنطونية منذ انطلاقتها بالانفتاح على الآخر، حتى في قلب مناطق كان يغلب عليها الطابع غير المسيحي. فدخلت الجنوب والبقاع، وكرّست العيش المشترك من خلال المدارس والأنشطة الرعوية، ففتحت أبوابها لأبناء الطوائف كافة، وغرست فيهم القيم، لا العقائد.

“لم يكن هدفنا التبشير بالمعنى الضيّق، بل زرع القيم الإنجيليّة في القلوب. واليوم يشكّل أبناء الطوائف الأخرى عددًا كبيرًا من تلامذتنا في مدارسنا وجامعتنا”، يقول شماطه، “وهذا دليل على ثقة المجتمع بنا، وعلى عُمق رسالتنا”.

النسك صلاة… والمحبسة قلبٌ لا يشيخ

رغم العصرنة والتطوّر، بقيت الرهبانية وفيةً للبعد النسكي. فيها ثلاثة حبساء اليوم، يجسّدون بأجسادهم على الأرض وقلوبهم في السماء، المعنى الأعمق للتفرغ الكامل لله. شبابٌ نذروا العزلة ليكونوا ملحًا يقدّس العالم من صمتهم.

ويضيف شماطه: “التحدّي اليوم أن تتخلّى عن كل شيء وتتبع المسيح. لذلك نكثّف لقاءاتنا مع الشبيبة، وخصصنا الأحد الأول من كل شهر ليكون لقاءً مفتوحًا في الرئاسة العامة لاستقطاب الدعوات. حتى إن لم يدخلوا الرهبنة، من الجيد أن يتعرّفوا علينا”.

مؤسسات تمتدّ على تراب لبنان ووجدان شعبه

150 راهبًا أنطونيًا اليوم يخدمون في أكثر من 30 ديرًا في لبنان وبلاد الانتشار، ويديرون 12 مدرسة وجامعة، وميتمًا للأطفال المتروكين. إنها رهبانية لا تكتفي بالصلاة، بل تمسح دموع المتروكين، وتعلّم أبناء الفقراء، وترافق السجناء، وتخلق فرص العمل مع مؤسسة “لابورا”.

وأشرقت الثقافة في مسيرة الرهبنة من خلال مرافق عديدة أنشأتها، من أبرزها مجلة “حياتنا الأنطونية” التي استأنفت صدورها بعد انقطاع فرضته جائحة كورونا، ومركز الدراسات والأبحاث المشرقية في أنطلياس، والمدرسة الموسيقية بفروعها الثلاثة. وقد لمع في هذا المجال عدد من المؤلفين والموسيقيين الأنطونيين، في طليعتهم الأب بولس الأشقر، عرّاب مدرسة الرحابنة، وتبعه الآباء يوحنا صادر، ألبير شرفان، يوسف واكد، فادي طوق وتوفيق معتوق.

إلى حيثُ الكنيسة تنادي… “أنطونيّون في بلاد الله الواسعة”

في روما، في فرنسا، في كندا، في بلجيكا، في سويسرا، في أستراليا، في سوريا، في سلطنة عُمان… الأنطونيون حاضرون. من لبنان الأم إلى مغارب العالم، يصلّون، يدرّسون، يبشّرون، ويدعون الناس إلى لقاء الربّ.

“نحن في صدد إنشاء أوّل بعثة أنطونية دائمة في سويسرا”، يكشف الأب شماطه، “وهذا فخر كبير لنا، لأننا نحمل صليبنا الأزرق إلى حيث الكنيسة تحتاج، ونرافق الجاليات في مسيرتها الروحية والإنسانية”.

يوبيل الفرح بالرجاء… وليس ذكرى فقط

لعلّ أجمل ما في هذا اليوبيل، هو تزامنه مع يوبيل الكنيسة “حجاج الرجاء”، الذي أعلنه البابا الراحل فرنسيس. من هنا، اختارت الرهبانية شعارها: “فرحون بالرجاء” (روما 12: 12)، وهو أكثر من شعار، بل صرخة رجاء في قلب ضياع العالم.

ويؤكد شماطه أن “اليوبيل هو وقفة شكر، وقفة إيمان، لحمل إرثٍ كبير سلّمنا إياه آباؤنا، وللمحافظة عليه بروح المحبة والصلاة والعمل”.

“نور لا ينطفئ”… رسالة موسيقية من القلب إلى السماء

في 29 تموز، أي غدًا،  يقام ريسيتال “نور لا ينطفئ” في كنيسة مار الياس الكبرى – أنطلياس. ليس مجرّد أمسية موسيقية، بل صلاة ممزوجة بالتراتيل السريانية والكلمة الجميلة والأنغام الملائكية، بقيادة الأب معتوق وجوقات من جامعتي الأنطونية وسيدة اللويزة، بمشاركة الأوركسترا السمفونية الرومانية.

هي تحية موسيقية من القلب إلى كل الذين جعلوا من الرهبانية لحنًا لا ينقطع.

موعد اللقاء… في دير البداية

وفي 15 آب 2025، سيُقام في المكان الذي انطلقت منه المسيرة: دير مار أشعيا – المتن، قداس يرأسه البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. دعوة عامة للكل، للانضمام إلى صلاة الشكر، من منبع النبع، من رحم الدعوة، حيث بدأت الحكاية… وما انتهت.

النور لن ينطفئ… أبدًا

ما بين مذبح ودير، بين رعية ومحبسة، بين مدرسة ومؤسسة، تسير الرهبانية الأنطونية المارونية في أرض لبنان كما في قلب الكنيسة. 325 سنة لم تكن زمنًا فقط، بل كانت صلاةً متواصلة، شكرًا لا ينضب، وتواضعًا لا يتكلّم كثيرًا، لكنه يعمل كثيرًا، ويؤمن أكثر.

ومن ديرٍ إلى دير، ومن دعوة إلى أخرى، تبقى شعلة القديس أنطونيوس مشتعلة: “نور لا ينطفئ”، أبدًا!

المصدر: نداء الوطن

الكاتب: مروان الشدياق